Awad El Shimy

الفنان المصري “عوض الشيمي” (من مواليد عام 1949)، الذي ظل على امتداد مشوارٍ فنيٍ خصيب قارَب مداه أربعين عاماً، مهموماً بخوض تحديات عسيرة على مستويات شتى، أسفرت عن وجوهها عبر تجليات متعددة، كان أبرزها نتاجاً لسعيٍ لا يهدأ خلف حُلم إدراك كمال الصياغة البصرية، وثمرةً لطموح لا يعرف الكلل لاستنطاق الوسائط والخامات، وتطويع الأداءات والتقنيات حتى تبوح بمكنونات أسرارها، وتكتسي ثوب البهاء الجمالي والرواء البصري.

غير أن ارتكان “عوض” إلى خيار الجماليات الإسلامية لم يعْنِ انطفاء جذوة التحديات، ولا هو كان إيذاناً بانتهائها، بل لعله كان بداية أسئلة لا تقل وعورة وإرهاقاً عما سلفها من تحديات تقنية وأسلوبية؛ فالفن الإسلامي لم يكن يوماً بالمرفأ المهجور من أشرعة استلهام مدارس الفن الحديث على اختلافها، بل لعله أحد أهم تلك المرافئ وأشهرها، وأكثرها حفولاً بقرائح فنانين ما برحوا يستقون من سلساله ما يبعث النضارة في أوصال رؤاهم، أو يمزجون مقولاته وعناصره بنظائرها في الاتجاهات الفنية الحديثة، حتى أن بعضاً من أشهر أساطين الفن العالمي افتتحوا لأنفسهم مسارات جديدة بوحيٍ منه، لم تلبث أن غدت علامات وضيئة في سياق تحولاتهم الفنية، وهو ما يستدعي نموذجي “ديلاكروا” Eugène Delacroix (1798 – 1863) و”ماتيس” Henri Matisse (1869 – 1954) على نحوٍ خاص، فضلاً عن “إيشر” M. C. Escher (1898 – 1972) الذي أسس نظريته البصرية بأكملها على هضم قواعد الزُخرُف الإسلامي وتفكيك بِنْيَتها الرياضية. وقد بات المشهد في السياق التشكيلي العربي الحديث أكثر تعقيداً من نظيره الغربي؛ فإضافة إلى اقتداء كثير من فناني العرب برواد المدارس الغربية ممن استلهموا الجماليات الإسلامية، أسهم رواج مقولات “القومية”، و”الأصالة”، و”التراث”، و”الهوية”، و”العودة إلى روح الشرق” في تأجيج الحراك صوب استهداء الفن الإسلامي، وغيره من فنون الحضارات التي تعاقبت على بلاد الشرق، ورواج هذه التوجهات بين عدد كبير من فناني العرب، حتى أولئك الذين بلغ الخلاف بين مرجعياتهم الفكرية والأسلوبية درجة التضاد.

فكيف لـ”عوض” أن يُرسي دعائم شخصية فنية متفردة، في ظل هذا الزخم من التنويعات البصرية الإسلامية الحديثة التي تفتّح عليها وعي أبناء جيله؟! وهل تُراه يتأثر في ذلك ببعض جهود من سبقوه في المضمار ذاته؟ وأيُّهُم يمكن أن يستقطبه منهجه ومنواله؟ هل يغوص مع “ماهر رائف” في بوارق التصوف وإشراقات العرفان؟ أم يبحر مع “الجبالي” في أسفار التجريب على التكوينات الحروفية ومفردات المعمار المختزل؟ أم تُراه يستهدي بعضاً من قوانين الحداثة في رفع لواء الشكل، والسعي خلف المسرة البصرية دونما انشغالٍ بالمحتوى النظري؟

في باطن هذه المعادلة الدقيقة، استثمر “عوض” بذكاء مجموعة مهاراته البحثية، التي حصّلها من واقع اشتغاله بالتدريس الأكاديمي،فكانت تلك المهارات البحثية عوناً له على استكمال البحث المعرفي الدقيق خلف مفردات عالمه الجديد، وهو ما ظهر جلياً في انتقائه الدقيق لمجموعة عناصره البصرية الرئيسية، المحملة بزخم تاريخي وأدبي يضرب جذوراً راسخة في صميم التراث الثقافي الإسلامي – شخصيتي “الجارية” و”المحارب” على وجه الخصوص – وقد جاء ذلك مشمولاً ببصيرة مذهلة فيما يتعلق باختيار الملائم من الأداءات والتقنيات لصياغة كل عنصر، وانتقاء المناسب من المعالجات الفنية لإظهارها في أقصى بهاء وتأثير ممكنين.

وكان بإمكان “عوض الشيمي” أن يركن إلى النجاح الذي حققه خلال تلك المرحلة، ولم يكن ليلومه أحد فيما لو تمسك بها وتشبث بعناصرها، على غرار نمط شائع من الفنانين، قد تمر به عشرات السنوات وهو عاكف على ذات الأشكال والمعالجات، بحجة التجويد وتعميق التجربة، بينما يكون السبب الحقيقي كامناً عادة إما في فقر المخيلة، أو في هلع الإخفاق وخسارة الرواج التجاري. لكن “عوض” لم يعبأ يوماً بهذه الحسابات ولم يُقِم لها وزناً؛ فكان أن تمرد على الدائرة وهو في ذروة التدفق من مرحلتها الخصبة، ممارساً تنويعات أخرى من التكوينات والمعالجات على مسطحات طباعية رباعية الأضلاع، مجدداً بذلك عافية مخيلته التصميمية، فكان من الطبيعي حين يعاوده الحنين إلى عناق المسطح الدائري – خلال نهاية السبعينيات – أن تأتي هذه المعاودة مشمولة بألَق التجديد ومحملة بخمائر ناضجة، سرعان ما ستؤتي ثمارها عبر التفتح العفي في مراحل تالية متعاقبة، ارتبطت منطقياً بإطار أسلوبي واحد، وارتشفت من المَعين ذاته علاماتها البصرية وموتيفاتها الجمالية ورموزها الدلالية، واختلفت في تفصيلاتها من حيث المعالجات والعلاقات البنائية بين العناصر، لتسجل خلال مسيرتها استشرافاً لتأملات خالصة في صميم المَتْن الجمالي الإسلامي، وهو استشراف يكاد يسجل معادلاً بصرياً لمراحل من الكشف الصوفي المتصاعد.

وفي غمار التحولات المرحلية التي أعقبت تلك الفترة، تتجلى مجموعتاه الفريدتان: “الجارية – “التي نفذها بداية من عام 1983 بوسائط الحفر الغائر – و”تمجيد المحارب القديم” – المنفذة عام 1991 بالوسائط نفسها، لتُجسدا حالتين فريدتين من حالات الاستبطان العميق لنموذجين شرقيين قياسيين، أحدهما نسوي مقهور مهمش، ومكرس لأغراض غواية وإمتاع نموذجه الذكوري المضاد، المختال ببقايا مجدٍ قديم، لم يبق منه إلا هيكل خاوٍ يتلمس حلم القوة من أسلحة ودروع باتت في ذمة التاريخ. فقد سطع اهتمام “عوض” بالوضع الاجتماعي المستَلَب للجارية، التي بدت مهيضة تحت سطوة عمامة تتسلط على دماغها تسلطاً ذكورياً فجاً، زاد من هيمنته اختفاء ملامح وجهها – بل رأسها بأكمله – دلالة على حضورها الغائب وكيانها الهامشي، وهي معالجة ترميزية نقع على سوابقها لدى الرائد السريالي “رينيه ماجريت” Renè Magritte (1898 – 1967)، الذي اشتهرت كثير من أعماله بشخوصها ذات الملامح المطموسة والرؤوس المخبوءة، في إحالات لارتباك الشخصية ومراوغتها للمكاشفة الإنسانية وعجزها عن الاتصال المباشر، وهو ما زاد عليه في حالة المحارب المملوكي هالة تنضح بشفقة نستشعر مرارتها، حين يجسد لنا “عوض” مدى الغبن المحيط بسمعة المحارب المملوكي، الذي سجنه التاريخ بين صخرتي البطولات الحربية الزاعقة والفساد المكتنف للحياة السياسية المملوكية، وكأن “عوض” كان يمارس هنا لوناً من (الكناية) البصرية، يصح أن نرصد في شفرتها رائحة الإسقاط على ثقافة عصره، التي ما زالت المرأة فيها كياناً جسدانياً مكرساً لسطوة الذكورية الزائفة بالدرجة الأولى.

وفي عام 1992 يخوض “عوض” غمار مغامرة تجريبية جديدة؛ إذ يطرح جانباً خامات الحفر الأثيرة إلى قلبه، ويخاطب منطقاً تذوقياً آخر لدى متلقيه، هو منطق التذوق اللوني، بديلاً عن منطق التذوق أحادي اللون (المونوكرومي) monochromatic الذي ساد أكثر أعماله المنفذة بوسائط الطباعة الغائرة؛ فقد صاغ مجموعة “عمائم” بخامة الألوان المائية مع رقائق الذهب، مستحضراً زهوة المخطوطات العربية، التي كان التذهيب فيها ركناً أساسياً من أركان الاكتمال الجمالي، ومكرِّساً في الوقت ذاته العمامة بوصفها علامة اجتماعية وطبقية وثقافية لصيقة بالحضارات الشرقية – والعربية على وجه الخصوص – في حضور بارز لمجموعة من الأشكال الخطية والعلامات الإشارية، التي سبق وأن ميزت أعماله في فترات سابقة – خاصة خلال عقد السبعينيات – منها الخط المنكسر الملتوي المنتهي برأس سهم – بدت وكأنها أحافير لنقوش عتيقة غير مقروءة، فظهرت العمائم وهي تهيم في فضاء زخرفي وإشاري ينفصم عن حضور الشخصية، فنظل نستحضر لها ملامح وجوه مفترضة لا نراها أبداً.

وكأن “عوض الشيمي”، خلال عكوفه على تنفيذ مجموعة “عمائم”، كان يستحضر بداخله غلياناً تمهيدياً لمجموعة أخرى أكثر منها شهرة، هي مجموعة “نوافذ شرقية” التي نفذها عام 1996، في سلسلة من ثمانية وعشرين لوحة طباعية، عاود فيها عناق وسائطه الأثيرة في الحفر الغائر، مستهدياً فكرة المقابلة بين كثافة الحالات الظلية، التي يطغى من خلالها حضور بصري جاثم لجدران عتيقة، وبين الرنين الصداح لإشراقات الضوء، التي بدت معادلاتها البصرية في انفراجات نوافذ، صيغت باقتدار عبر حلول تصميمية جديرة بالتأمل، زاد من بهائها أسلوب فريد في تنويع مقابلات بين تدرجات الظل والنور، تراوحت بين التداخل المتآلف والتضاد السافر. وفي نسيج هذه المعزوفات التصميمية الضوئية، تبدّت فرادة المعالجة على مستويات عدة؛ كان أوضحها الحضور الهندسي الرصين لانفراجات النوافذ الصريحة البياض، في مقابل هيولية وسيولة العماء الظلي، بدرجاته التي تتراوح بين الهمس الرمادي والخوار السوداوي.

من هنا – تحديداً – تستمد تجربة “عوض الشيمي” فرادتها وخصوصيتها؛ إذ هي في صميمها تجربة فنان امتلك من لياقة التجديد قسطاً وفيراً، وانطوت قريحته الخصيبة على روافد تكتنز بإمكانات لا حدود لقدرتها على الإدهاش، فنان عشق مجاله وأخلص له، وأفنى زهرة عمره في البحث والتنقيب والتجريب، وعكف سنوات طوال على تطوير ذاته وتجويد أدواته، ولم تقف في سبيل طموحه يوماً عقبات زائفة من قبيل الصراع بين الجديد والقديم، والتقليدي والمستحدث، فكان جديراً بأن يُرصَد بوصفه واحداً من أهم أساطين الجرافيك العربي، وفارساً شرقياً أصيلاً روّض وعورة وسائطه وذللها، فاستحق أن يعتلي صهوة المعاصرة دون منازع.